فصل: سورة المعارج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (38- 40):

{فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)}
قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ} المعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون. ولا صلة.
وقيل: هو رد لكلام سبق، أي ليس الامر كما يقوله المشركون.
وقال مقاتل: سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر.
وقال أبو جهل: شاعر.
وقال عقبة: كاهن، فقال الله عز وجل: {فَلا أُقْسِمُ} أي أقسم.
وقيل: فَلا ها هنا نفي للقسم، أي لا يحتاج في هذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك، وعلى هذا فجوابه كجواب القسم. {إِنَّهُ} يعني القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يريد جبريل، قاله الحسن والكلبي ومقاتل. دليله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} [التكوير: 20- 19].
وقال الكلبي أيضا والقتبي: الرسول ها هنا محمد صلي الله عليه وسلم، لقوله: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ وليس القرآن قول الرسول صلي الله عليه وسلم، إنما هو من قول الله عز وجل ونسب القول إلى الرسول لأنه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك.

.تفسير الآيات (41- 42):

{وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)}
قوله تعالى: {وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ} لأنه مباين لصنوف الشعر كلها. {وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ} لأنه ورد بسب الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئا على من يسبهم. وما زائدة في قوله: قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ، والمعنى: قليلا تؤمنون وقليلا تذكرون. وذلك القليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا: الله. ولا يجوز أن تكون ما مع الفعل مصدرا وتنصب قَلِيلًا بما بعد ما، لما فيه من تقديم الصلة على الموصول، لان ما عمل فيه المصدر من صلة المصدر. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وابن عامر ويعقوب {ما يؤمنون}، و{يذكرون} بالياء. الباقون بالتاء لان الخطاب قبله وبعده. أما قبله فقوله: تُبْصِرُونَ وأما بعده: فَما مِنْكُمْ الآية.

.تفسير الآية رقم (43):

{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)}
قوله تعالى: {تَنْزِيلٌ} أي هو تنزيل. {مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} وهو عطف على قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40]، أي إنه لقوله رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين.

.تفسير الآيات (44- 46):

{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)}
قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ} تَقَوَّلَ أي تكلف وأتى بقول من قبل نفسه. وقرئ: {ولو تقول} على البناء للمفعول. {لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أي بالقوة والقدرة، أي لاخذناه بالقوة. ومِنْ صلة زائدة. وعبر عن القوة والقدرة باليمين لان قوة كل شيء في ميامنه، قاله القتبي. وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد. ومنه قول الشماخ:
إذ ما راية رفعت لمجد ** تلقاها عرابة باليمين

أي بالقوة. عرابة أسم رجل من الأنصار من الأوس.
وقال آخر:
ولما رأيت الشمس أشرق نورها ** تناولت منها حاجتي بيميني

وقال السدي والحكم: بِالْيَمِينِ بالحق. قال:
تلقاها عرابة باليمين

أي بالاستحقاق.
وقال الحسن: لقطعنا يده اليمين.
وقيل: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف، قاله نفطويه.
وقال أبو جعفر الطبري: إن هذا الكلام خرج مخرج الاذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب. كما يقول السلطان لمن يريد هوانه: خذوا يديه. أي لأمرنا بالأخذ بيده وبالغنا في عقابه. {ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ} يعني نياط القلب، أي لاهلكناه. وهو عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه، قاله ابن عباس وأكثر الناس. قال:
إذا بلغتني وحملت رحلي ** عرابة فاشرقي بدم الوتين

وقال مجاهد: هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع، فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه. والمؤتون الذي قطع وتينه.
وقال محمد بن كعب: إنه القلب ومراقه وما يليه. قال الكلبي: إنه عرق بين العلباء والحلقوم. والعلباء: عصب العنق. وهما علباوان بينهما ينبت العرق.
وقال عكرمة: إن الوتين إذا قطع لا إن جاع عرف، ولا إن شبع عرف.

.تفسير الآيات (47- 48):

{فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)}
قوله تعالى: {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} فَما نفي وأَحَدٍ في معنى الجمع، فلذلك نعته بالجمع، أي فما منكم قوم يحجزون عنه كقوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] هذا جمع، لان بَيْنَ لا تقع إلا على اثنين فما زاد. قال النبي صلي الله عليه وسلم: «لم تحل الغنائم لاحد سود الرؤوس قبلكم». لفظه واحد ومعناه الجمع. ومِنْ زائدة.
والحجز: المنع. وحاجِزِينَ يجوز أن يكون صفة لاحد على المعنى كما ذكرنا، فيكون في موضع جر. والخبر مِنْكُمْ. ويجوز أن يكون منصوبا على أنه خبر ومِنْكُمْ ملغى، ويكون متعلقا ب حاجِزِينَ. ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا، كما لم يمتنع الفصل به في إن فيك زيدا راغب. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ} يعني القرآن {لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أي للخائفين الذين يخشون الله. ونظيره: {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] على ما بيناه أول سورة البقرة.
وقيل: المراد محمد صلي الله عليه وسلم، أي هو تذكرة ورحمة ونجاة.

.تفسير الآيات (49- 52):

{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}
قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} قال الربيع: بالقرآن. {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ} يعني التكذيب. والحسرة: الندامة.
وقيل: أي وإن القرآن لحسرة على الكافرين يوم القيامة إذا رأوا ثواب من آمن به.
وقيل: هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم أن يأتوا بسورة مثله. {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} يعني أن القرآن العظيم تنزيل من الله عز وجل، فهو لحق اليقين.
وقيل: أي حقا يقينا ليكونن ذلك حسرة عليهم يوم القيامة. فعلى هذا وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ أي لتحسر، فهو مصدر بمعنى التحسر، فيجوز تذكيره.
وقال ابن عباس: إنما هو كقولك: لعين اليقين ومحض اليقين. ولو كان اليقين نعتا لم يجز أن يضاف إليه، كما لا تقول: هذا رجل الظريف.
وقيل: أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين. {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي فصل لربك، قاله ابن عباس.
وقيل: أي نزه الله عن السوء والنقائص.

.سورة المعارج:

سورة المعارج وهي مكية باتفاق. وهي أربع وأربعون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 4):

{سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)}
قوله تعالى: {سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ} قرأ نافع وابن عامر سَأَلَ سائِلٌ بغير همزة. الباقون بالهمز. فمن همز فهو من السؤال. والباء يجوز أن تكون زائدة، ويجوز أن تكون بمعنى عن. والسؤال بمعنى الدعاء، أي دعا داع بعذاب، عن ابن عباس وغيره. يقال: دعا على فلان بالويل، ودعا عليه بالعذاب. ويقال: دعوت زيدا، أي التمست إحضاره. أي التمس ملتمس عذابا للكافرين، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة. وعلى هذا فالباء زائدة، كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]، وقوله. {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] فهي تأكيد. أي سأل سائل عذابا واقعا. {لِلْكافِرينَ} أي على الكافرين. وهو النضر ابن الحارث حيث قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] فنزل سؤاله، وقتل يوم بدر صبرا هو وعقبة بن أبي معيط، لم يقتل صبرا غيرهما، قاله ابن عباس ومجاهد.
وقيل: إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري. وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلي الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه: «من كنت مولاه فعلي مولاه» ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ثم قال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأن نصلي خمسا فقبلناه منك، ونزكي أموالنا فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام فقبلناه منك، وأن نحج فقبلناه منك، ثم لم ترض بهذا حتى فضلت ابن عمك علينا! أفهذا شيء منك أم من الله؟! فقال النبي صلي الله عليه وسلم: «والله الذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله» فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره فقتله، فنزلت: {سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ} الآية.
وقيل: إن السائل هنا أبو جهل وهو القائل لذلك، قاله الربيع.
وقيل: إنه قول جماعة من كفار قريش.
وقيل: هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين.
وقيل: هو رسول الله صلي الله عليه وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب وطلب أن يوقعه الله بالكفار، وهو واقع بهم لا محالة. وأمتد الكلام إلى قوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا} [المعارج: 5] أي لا تستعجل فإنه قريب. وإذا كانت الباء بمعنى عن- وهو قول قتادة- فكأن سائلا سأل عن العذاب بمن يقع أو متى يقع. قال الله تعالى: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] أي سل عنه.
وقال علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ** بصير بأدواء النسا طبيب

أي عن النساء. ويقال: خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. فالمعنى سألوا بمن يقع العذاب ولمن يكون فقال الله: لِلْكافِرينَ. قال أبو علي وغيره: وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما. وإذا اقتصر على أحدهما جاز أن يتعدى إليه بحرف جر، فيكون التقدير سأل سائل النبي صلي الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب. ومن قرأ بغير همز فله وجهان: أحدهما: أنه لغة في السؤال وهي لغة قريش، تقول العرب: سال يسال، مثل نال ينال وخاف يخاف. والثاني أن يكون من السيلان، ويؤيده قراءة ابن عباس {سال سيل}. قال عبد الرحمن بن زيد: سال واد من أودية جهنم يقال له:
سائل، وهو قول زيد بن ثابت. قال الثعلبي: والأول أحسن، كقول الأعشى في تخفيف الهمزة:
سالتاني الطلاق إذ رأتاني ** قل مالي قد جئتماني بنكر

وفي الصحاح: قال الأخفش: يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. وقد تخفف همزته فيقال: سال يسال. وقال:
ومرهق سال إمتاعا بأصدته ** لم يستعن وحوامي الموت تغشاه

المرهق: الذي أدرك ليقتل. والأصدة بالضم: قميص صغير يلبس تحت الثوب. المهدوي: من قرأ {سال} جاز أن يكون خفف الهمزة بإبدالها ألفا، وهو البدل على غير قياس. وجاز أن تكون الالف منقلبة عن واو على لغة من قال: سلت أسال، كخفت أخاف. النحاس: حكى سيبويه سلت أسال، مثل خفت أخاف، بمعنى سألت. وأنشد:
سالت هذيل رسول الله فاحشة ** ضلت هذيل بما سالت ولم تصب

ويقال: هما يتساولان. المهدوي: وجاز أن تكون مبدلة من ياء، من سال يسيل. ويكون سائل واديا في جهنم، فهمزه سائل على القول الأول أصلية، وعلى الثاني بدل من واو، وعلى الثالث بدل من ياء. القشيري: وسائل مهموز، لأنه إن كان من سأل بالهمز فهو مهموز، وإن كان من غير الهمز كان مهموزا أيضا، نحو قائل وخائف، لان العين اعتل في الفعل واعتل في اسم الفاعل أيضا. ولم يكن الاعتلال بالحذف لخوف الالتباس، فكان بالقلب إلى الهمزة، ولك تخفيف الهمزة حتى تكون بين بين. واقِعٍ أي يقع بالكفار بين أنه من الله ذي المعارج.
وقال الحسن أنزل الله تعالى: {سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ} فقال لمن هو؟ فقال للكافرين، فاللام في الكافرين متعلقة ب واقِعٍ.
وقال الفراء: التقدير بعذاب للكافرين واقع، فالواقع من نعت العذاب واللام دخلت للعذاب لا للواقع، أي هذا العذاب للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد. وقيل إن اللام بمعنى على، والمعنى: واقع على الكافرين. وروي أنها في قراءة أبي كذلك.
وقيل: بمعنى عن، أي ليس له دافع عن الكافرين من الله. أي ذلك العذاب من الله ذي المعارج أي ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم، قاله ابن عباس وقتادة فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق وقيل ذي العظمة والعلاء وقال مجاهد: هي معارج السماء.
وقيل: هي معارج الملائكة، لان الملائكة تعرج إلى السماء فوصف نفسه بذلك.
وقيل: المعارج الغرف، أي إنه ذو الغرف، أي جعل لأوليائه في الجنة غرفا. وقرأ عبد الله {ذي المعاريج} بالياء. يقال: معرج ومعراج ومعارج ومعاريج، مثل مفتاح ومفاتيح. والمعارج الدرجات، ومنه: {وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]. {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} أي تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم. وقرأ ابن مسعود وأصحابه والسلمى والكسائي {يعرج} بالياء على إرادة الجمع، ولقوله: ذكروا الملائكة ولا تؤنثوهم. وقرأ الباقون بالتاء على إرادة الجماعة. وَالرُّوحُ جبريل عليه السلام، قاله ابن عباس. دليله قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193].
وقيل: هو ملك آخر عظيم الخلقة.
وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس. قال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين يقبض. إِلَيْهِ أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء، لأنها محل بره وكرامته.
وقيل: هو كقول إبراهيم: {إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي} [الصافات: 99]. أي إلى الموضع الذي أمرني به.
وقيل: إِلَيْهِ أي إلى عرشه. {فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال وهب والكلبي ومحمد ابن إسحاق: أي عروج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة.
وقال وهب أيضا: ما بين أسفل الأرض إلى العرش مسيرة خمسين ألف سنة. وهو قول مجاهد. وجمع بين هذه الآية وبين قوله: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ في سورة السجدة، فقال: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسون ألف سنة. وقوله تعالى في {الم تَنْزِيلُ}: {فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5] يعني بذلك نزول الامر من سماء الدنيا إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لان ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام. وعن مجاهد أيضا والحكم وعكرمة: هو مدة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنة. لا يدري أحدكم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل.
وقيل: المراد يوم القيامة، أي مقدار الحكم فيه لو تولاه مخلوق خمسون ألف سنة، قاله عكرمة أيضا والكلبي ومحمد بن كعب. يقول سبحانه وتعالى وأنا أفرغ منه في ساعة.
وقال الحسن: هو يوم القيامة، ولكن يوم القيامة لا نفاد له فالمراد ذكر موقفهم للحساب فهو في خمسين ألف سنة من سني الدنيا، ثم حينئذ يستقر أهل الدارين في الدارين.
وقال يمان: هو يوم القيامة، فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة.
وقال ابن عباس: هو يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، ثم يدخلون النار للاستقرار. قلت: وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله، بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. فقلت: ما أطول هذا! فقال النبي صلي الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا». واستدل النحاس على صحة هذا القول بما رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: «ما من رجل لم يؤد زكاة ماله إلا جعل شجاعا من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس».
قال: فهذا يدل على أنه يوم القيامة.
وقال إبراهيم التيمي: ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر. وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث معاذ عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: «يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب وأسرع الحاسبين». ذكره الماوردي.
وقيل: بل يكون الفراغ لنصف يوم، كقوله تعالى: {أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]. وهذا على قدر فهم الخلائق، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن. وكما يرزقهم في ساعة كذا يحاسبهم في لحظة، قال الله تعالى: {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ} [لقمان: 28]. وعن ابن عباس أيضا أنه سئل عن هذه الآية وعن قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5] فقال: أيام سماها الله عز وجل هو أعلم بها كيف تكون، وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم.
وقيل: معنى ذكر خمسين ألف سنة تمثيل، وهو تعريف طول مدة القيامة في الموقف، وما يلقى الناس فيه من الشدائد. والعرب تصف أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر، قال الشاعر:
ويوم كظل الرمح قصر طوله ** دم الزق عنا واصطفاق المزاهر

وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له من الله دافع، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه. وهذا القول هو معنى ما اخترناه، والموفق الإله.